What do you think?
Rate this book


453 pages, Kindle Edition
First published September 5, 2021
“القدَرُ يا بني هو التدبيرُ بميزان الحكمة، واللّطفُ بميزانِ الرحمة، والتقويمُ بميزان العدل، وكل ما يقدِّره الله لنا يكون إما لحكمةٍ يدبِّرها، أو لطفٍ من رحمته، أو تقويمٍ لما أعوجَّ من أمرنا، ولذا وجب علينا الثناء على قدره في كل حال.”
“أدركت أن السعادة في تحقيق الغايات وليس تحقيق الأحلام، فالحلم ما هو إلا وسيلة للوصول إلى الغاية!”
“أتدري ما التيه؛ إنه الحياة على أمل كاذب، أن تشعر بأنك كلما اقتربت ابتعدت، وكلما دنوت بنوت، أن يحدوك الأمل ثم تتجرع خيبته مرات ومرات.”

يا لهذه الكلمات! كأنها تلتقط سرا من أسرار الروح وتعلقه أمام أعيننا بلا مواربة! عندما صادفت هذا المقطع في أوراق شمعون المصري شعرت أنني لا أقرأ تاريخا وانما أقرأ التيه المعاصر الذي يسكن كل واحد فينا.
يا إلهي! واحدة من أروع ما قرأت هذه السنة كانت هذه الرواية. لم أخف أن أُرهق من طولها الكبير, ولم أتوجس من ثقلها التاريخي, ولم أتهيب أن تحاصرني الأسماء والحوادث القديمة. على العكس كنت أخشى شيئا واحدا فقط: أن تنتهي الصفحات بسرعة أن أصل إلى الورقة الأخيرة وأنا لم أكتف بعد من هذه الرحلة.
أسامة عبد الرؤوف الشاذلي كتب نصا يذكرني بجداريات طويلة تمتد أمامي فلا أعرف من أين أبدأ تأملها: هل من الحروف الأولى التي تتوهج كنجوم في صدر الكتاب أم من التفاصيل الصغيرة التي تنبض بالحياة داخل القصة؟ اللغة متدفقة، عذبة، مشبعة بروح شعرية حتى وإن لم تكن شعرا.
هذه الرواية كأنها نهر يعبر من زمن موسى والتيه ليصب في وجدان قارئ يعيش القرن الحادي والعشرين.
“كل ما في الكون قد توقف ليشهد تلك اللحظة … أصعب ما في حياة البشر هي حرية الاختيار.”
قرأت الرواية وكأني أسير مع شمعون بن زخاري خطوة بخطوة:
من الخروج من مصر, ثم إلى الصحراء, ثم إلى الصراع بين اليقين والشك و بين الطاعة والتمرد و بين الإيمان والمعجزة. شمعون كان مرآة أتأمل نفسي فيها. كل كلمة يخطها كانت صدى لصوت داخلي لم أسمعه من قبل.
شمعون بن زخاري أو كما يلقب "شمعون المصري" ابن النجار زخاري من بني إسرائيل وُلد من حب عابر للحدود: حب أب إسرائيلي لجارية مصرية. كان ثمرة لقاء نادر جاء إلى الدنيا ليجد نفسه منذ طفولته جزءا من قصة أكبر بكثير من حجمه. لم يتجاوز السابعة حين حمله القدر إلى الخروج العظيم مع نبي الله موسى ومعه أبواه وأهله وجموع بني إسرائيل.
طفل صغير عيناه مفتوحتان على الدهشة يشهد ما لا يصدقه عقل: البحر ينشق و اثنتا عشرة عينا تنبثق من صخور صامتة ونزول المن والسلوى يتساقطان على قوم أنهكتهم الصحراء. مشاهد تتكرر وتروى لي عندما كنت طفلة, لكنها هنا تروى بطريقة لا ادري ماذا اقول فيها سوى انها ساحرة .
ومع ذلك ما كان الطريق معبدا باليقين والورد من طفولته. السامري زوج عمته يقود العصيان ببنائه للعجل الذهبي ودعوته لعبادته. لحظة الانكسار الكبرى التي تحول المعجزة إلى فتنة. ثم تأتي لحظة أخرى لا تقل قسوة: نزول الشرائع ورفض بني إسرائيل الدخول إلى الأرض المقدسة والحكم الإلهي بالتيه أربعين سنة. أربعون عاما من الدوران في صحراء شاسعة و أربعون عاما من التعلق بالأمل ثم تحطيمه !!!.
كل هذه الأحداث نعرفها منذ طفولتنا نحفظها كما نحفظ قصص الأنبياء التي تروى لنا في المدارس والمساجد. لكن صدقا عندما قرأت أوراق شمعون المصري لم أشعر أنني أستعيد دروس التاريخ أو الحكايات الدينية لقد قرأت الكتاب كأنني أعيشها للمرة الأولى. كأنني أتنفس هواء ذلك الزمان أمشي في رمال سيناء, وأسمع أصوات الناس وهي تتجادل وتتشاجر وتخاف وتتمرد. الرواية قدمت كحاضر ممتد يلامسنا اليوم. قصص بامعنى عميق تحكي بطريقة سرد مميزة جعلتني أنظر الى أمور من زوايا لا نهتم بها في سماعنا لهذه الحكايات.
. كيف يمكن لكتاب أن يمتد إلى ثمانمئة صفحة دون أن يزرع في القارئ بذرة ملل واحدة؟ كلما توغلت أكثر شعرت أنني أتشبث بالصفحات حتى لا تنتهي.
هذا هو سحر “أوراق شمعون المصري”: لأنها تقدم شخصية رئيسية تنمو أمام القارئ. شمعون لم يكن بطلا مثاليا لقد رأيته ينضج وعيه, كان طفلا, ثم شابا, ثم رجلا يشيخ أمام عينيك. عرفته وهو صغير يبصر المعجزات بدهشة ثم تابعته وهو ينضج تتسع رؤيته ويزداد صوته قوة وصدقا. حتى نهايته كانت مشبعة بالحزن نهاية شخصية عاشت بين عالمين.
شمعون شخصية هجينة: نصفه مصري من أمه ونصفه إسرائيلي من أبيه. هذا الانقسام الهوياتي جعله طوال حياته يقف على الحافة. لم يكن مثل قومه تماما، ولم يكن غريبا بالكامل. هذا جعله مختلفا وأتاح له أن يكون راويا محايدا بعض الشيء، ينقل الصراع من دون أن يبتلع به. ومع ذلك دفع ثمن هذه الهوية المزدوجة: الشعور الدائم بالغربة والبحث المستمر عن مكان ينتمي إليه.
“أدركت أن الوطن هو أرض تشعر فيها بالطمأنينة، وأن الأهل هم صحبة تشعر بينهم بالأمان!”
ولكن بعدها تأخذنا الأقدار إلى فصل جديد في حياة شمعون حيث يسافر ويهاجر إلى بلاد العرب القريبة ليعيش تجارب مختلفة تماما عن التيه مع بني إسرائيل. هناك يسمع حكم الشيخ عابر ويتزوج أروى, ويصادف شخصيات عديدة تؤثر فيه وتوسع مداركه, كل هذه الأحداث شكلت شمعون من الداخل منحته بصيرة أكبر للعالم من حوله..
وهنا يكمن السحر الذي جعلني أعشق هذه الرواية رؤية شمعون في سياق مختلف بين العرب وبني إسرائيل,.يظهر الفرق بوضوح, لكنه أيضا يظهر التميز الفريد.
في مجتمع العرب وجد شمعون ضالته. مجتمعا أقرب إلى فطرته التي تاقت إلى الحرية والبساطة. هناك لم يعامل كغريب, بل كصديق وحكيم. استمعوا إلى قصته إلى حكمته المستمدة من تجربتي عالمين واحترموا اختلافه.
هذا الاحترام للاختلاف هو ما جعلني أتأمل واقعنا اليوم. كيف أصبحنا نرفض من هو مختلف عنا بدلا أن نتعلم منه؟ كيف نسعى إلى فرض رأي واحد بدلا من قبول تعددية الآراء والتجارب؟ الحكمة لا توجد في مكان واحد وأن الحق لا يملكه طرف واحد.
“إن الحياة في الصحراء هي الفطرة … أما السكون فهو أصل الموت، ولا ينبغي للمرء أن يسكن إلا للراحة بين رحلتين!”
وما يجعل هذا الشعور أقوى أنه كان واقعيا ينبع من شخصيته وطبيعة الأحداث. يستطيع القارئ أن يشعر بصدق شمعون بعمق تجربته بطرق تفكيره بقدرته على التوازن بين ثقافتين متضادتين دون أن يفقد نفسه أو يقصر عن إيمانه.
أما عن اللغة؟ فهي بلا شك واحدة من أعظم أسباب عشقي لهذه الرواية. أسلوب أسامة عبد الرؤوف الشاذلي مشبع بجمال فريد فيه وقع موسيقي على النفس وفيه إيقاع يذكر بالكلمات القرآنية.
الكلمات المختارة بعناية تجعل من كل مشهد لوحة حية: وصف الصحراء و البحر و الحروب، وحتى تفاصيل الحياة اليومية بين العرب وبني إسرائيل. هناك أحيانا كلمات وجمل موجودة في القرآن، جعلتني أشعر بعلاقة بين الماضي والحاضر بين النص المقدس والتجربة الإنسانية.
تعلقت بهذه الرواية أولا لأنها تاريخية. أحب أن أقرأ الروايات التي تأخذني إلى عصور أخرى لأعيش مع شخصياتها وأتنفس هواء زمانها.
✦ أوصي بها لكل الناس, لكل الأعمار, لكل الباحثين عن التاريخ, للقراء العاطفيين,.ولمن يحبون النصوص الغنية بالمعاني المخفية, ولمن يبحث عن قصة يمكن أن تلمس قلبه بلا استثناء.✦
هي تجربة قراءة لا تنسى تجربة يمكن أن تأخذ القارئ بعيدا عن واقعه .
˚₊· ͟͟͞͞➳❥ أما النهاية؟ فهي كما كانت النهاية لشمعون نفسه, حلوة, وحزينة, في آن واحد. لا أستطيع أن أصفها مباشرة لكنها مثل أوراق قديمة متساقطة على الطاولة, وقلم يغلق مسافة الكتابة, وكأني ارى الرحلة كلها أمامي مرة أخرى, وأدرك أن ألم الانكسار.˚₊· ͟͟͞͞➳❥
“ولكن ألم الانكسار يكون دائمًا أشد على من اعتاد السند!”
